رؤية الله تعالى
رؤية الله تعالى موضوع مهم والعلم به ضروري ؛ إذ أنه باب من أبواب العقيدة الإسلامية ، وقد أوردنا في هذا المبحث خلاصة اعتقاد أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الجنة ، وأن رؤيتهم لربهم في الدنيا ممكنة ولم تقع لأحد لضعفنا وعجزنا ، وأدلة أهل السنة والجماعة في إثبات رؤية الله تعالى قطعية الثبوت من جهة القرآن ـ فهو قطعي كله ـ ومن جهة السنة فقد نقلت أحاديث إثبات الرؤية نقلاً متواترًا، لذا لم نبحث في سندها ورواتها عملاً بمنهج أهل مصطلح الحديث، فهي تفيد العلم اليقيني ، وقد قسّمنا البحث في فصول خمسة هي :
1 - الرؤية في الدنيا .
2 - الرؤية في الآخرة من الكتاب والسنة .
3- الرؤية في الآخرة من كتب الشيعة .
4 - هل رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم ربه ؟
5 - مناظرات حول الرؤيا .
6- من أقوال أئمة السنة في إثبات الرؤيا .
(1) الرؤية في الدنيا :
رؤية الله تعالى عند أهل السنة ممكنة في الدنيا وإن لم تقع لأحد ، وتعليل ذلك كما ذكر صاحب الطحاوي : يرجع إلى عجز أبصارنا ، لا لإمتناع الرؤية ، فهذه الشمس إذا حدّق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها لا لإمتناع في ذات المرئي ؛ بل لعجز الرائي ، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته ، ولهذا لما تجلى الله للجبل ( خر موسى صعقــًا ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) (الأعراف:143) .
ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته ؛ إلا من أيّده الله كما أيّد نبينا ، قال الله تعالى : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، ولو أنزلنا ملكــًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون)(الأنعام:8،9) .
ومن أقوى الأدلة على إمكانية الرؤية في الدنيا سؤال موسى عليه السلام الرؤية : ( قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ؛ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) (الأعراف:142، 143 )، وذلك من عدة أوجه :
أولاً : لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز .
ثانيــًا : أن الله عز وجل لم ينكر عليه سؤاله : ولما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ولده أنكر عليه سؤاله، وقال : إني أعظك أن تكون من الجاهلين )(هود:46) .
ثالثــًا : أنه تعالى قال : ( لن تراني ) ، ولم يقل : إني لا أُرى ، ولا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي ، والفرق بين الجوابين ظاهر .
رابعــًا : وهو قوله تعالى : ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) (الأعراف:143) ، فاعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار ، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟!!.
(2) الرؤية في الآخرة :
رؤية الله تعالى لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية ، كما نطق به الكتاب العزيز .. قال تعالى : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ ) (القيامة :22ـ23) ، وتفسير ذلك على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد ، وقد خالف في ذلك الجهمية والمعتزلة والخوارج ، والإمامية ، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة ، فقد قال بثبوت الرؤيا الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة والدين وأهل الحديث .
الأدلة من القرآن :
1 - قول الله تعالى : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ )(القيامة:22ـ23) في تفسير الطبري عن الحسن قال : " نظرت إلى ربها فنضرت بنوره " ، وقال عكرمة : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ ) قال : " من النعيم"، ( إلى ربها ناظرةٌ ) قال : " تنظر إلى ربها نظرًا " ، ثم حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله .
2 - قول الله تعالى : ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد )(ق:35) قال الطبري في جامع البيان : " قال علي بن أبي طالب ، وأنس بن مالك رضي الله عنهما : " هو النظر إلى وجه الله عز وجل " .
3 - قول الله عز وجل : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة )(يونس:26) .. فالحسنى :هي الجنة ، وزيادة : هي النظر إلى وجهه الكريم .. فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإمام مسلم عن صهيب قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى منادٍ : يا أهل الجنة : إن لكم عند الله موعدًا ويريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئــًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة ] .
الأدلة من السنة :
وقد جاءت الأحاديث في إثبات الرؤية كثيرة وأهمها حديث أبي هريرة في الصحيحين: [ أن ناســًا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارون الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا ، قال : فإنكم ترونه كذلك ] .
(3) الرؤية في الآخرة من كتب ومصادر الشيعة :
فقد جاء في "لئالى الأخبار" (4/410-411 ) لعمدة العلماء والمحققين محمد التوسيركاني في " باب في أن أهل الجنة يسمعون صوته " هذا الحديث - وهو حديث طويل - ونصه : ( في أن أهل الجنة يسمعون صوته تعالى ويخاطبهم وينظرون إليه وهما ألذ الأشياء عندهم قال (ع) في حديث يذكر فيه إشتغال المؤمنين بنعم الجنة : فبينما هم كذلك إذ يسمعون صوتاًمن تحت العرش : يا أهل الجنة كيف ترون منقلبكم ؟ فيقولون : خير المنقلب منقلبنا وخير الثواب ثوابنا ، قد سمعنا الصوت واشتهينا النظر وهو أعظم ثوابنا وقد وعدته ولا تخلف الميعاد فيأمر الله الحجاب فيقوم سبعون ألف حاجب فيركبون على النوق والبرازين وعليهم الحلى والحلل فيسبرون في ظل العرش حتى ينتهوا إلى دار السلام وهي دار الله دار البهاء والنور والسرور والكرامة فيسمعون الصوت فيقولون : يا سيدنا سمعنا لذاذة منطقك وأرنا وجهك فيتجلى لهم سبحانه وتعالى ، حتى ينظرون إلى وجهه تبارك وتعالى المكنون من كل عين ناظر فلا يتمالكون حتى يخروا على وجوههم سجدا فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا عظيم قال فيقول : يا عبادي إرفعوا رؤسكم ليس هذا بدار عمل .... فإذا رفعوا رفعوها وقد أشرقت وجوههم من نور وجهه سبعين ضعفا ثم يقول : يا ملائكتي أطعموهم واسقوهم ..يا ملائكتي طيبوهم فيأتيهم ريح من تحت العرش يمسك أشد بياضا من الثلج ويعبر وجوههم وجباههم وجنوبهم تسمى المثيرة فيستمكنون من النظر إلى وجهه فيقولون يا سيدنا حسبنا لذاذة منطقك والنظر إلى وجهك لا نريد به بدلا ولا نبتغي به حولا فيقول الرب إني أعلم أنكم إلى أزواجكم مشتاقون وان أزواجكم إليكم مشتاقات ارجعوا إلى أزواجكم قال : فيقولون : يا سيدنا اجعل لنا شرطاً قال فإن لكم كل جمعة زورة ما بين الجمعة سبعة آلاف سنة مما تعدّون قال فينصرفون فيعطى كل رجل منهم رمانة خضر في كل رمانة سبعون حلة .... حتى يبشروا أزواجهم وهن قيام على أبواب الجنان قال: فلما دنى منها نظرت إلى وجهه فأنكرته من غير سوء ، وقالت: حبيبي لقد خرجت من عندي وما أنت هكذا قال: فيقول: حبيبتي تلومني أن أكون هكذا وقد نظرت إلى وجه ربي تبارك وتعالى فأشرق وجهي من نور وجهه ، ثم يعرض عنها فينظر إليها نظرة فيقول: حبيبتي لقد خرجت من عندك و ماكنت هكذا فنقول : حبيبي تلومني أن أكون هكذا، وقد نظرت إلى وجه الناظر إلى وجهه ربي فأشرق وجهي من وجه الناظر إلى وجه ربي سبعين ضعفا ، فنعانقه من باب الخيمة والرب يضحك إليهم ).
وفي " البحار" (8/126ح27 باب الجنة و نعيمها ) عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (ع) قال: (مامن عمل حسن يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلا صلاة الليل ، فإن الله لم يبين ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال:{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} إلى قوله :{ يعملون } ثم قال: إن لله كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة ، فإذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكا معه حلة فينتهي إلى باب الجنة فيقول: اسأذنوا لي على فلان فيقال له: هذا رسول ربك على الباب، فيقول: لأزواجه أي شيئ ترين عليّ أحسن ؟ فيقلن : يا سيدنا والذي أباحك الجنة ما رأينا عليك شيئا أحسن من هذا بعث إليك ربك ، فيتزر بواحدة ويتعطف بالأخرى فلا يمرّ بشيئ إلا أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد ، فإذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك وتعالى ، فإذا نظروا إليه خرّوا سجدا فيقول: عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود ولا يوم عبادة قد رفعت عنكم المؤونة، فيقولون : يارب وأي شيئ أفضل مما أعطيتنا ، أعطيتنا الجنة، فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا ، فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه وهو قوله:{ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } وهو يوم الجمعة ) .
وأخرج الصدوق في " التوحيد" (ص117ح20 ) بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال: نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت: متى ؟ قال: حين قال لهم : { أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى } ثم سكت ساعة ، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير : فقلت : له جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال لا ، فإنك إذا حدثت به أنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون .
وجاء اثبات الرؤية من كلام الامام السجاد رحمه الله تعالى الذي أعرض " المؤلف الأمين " عن ذكره هنا واقتصر على بعض الأذكار بقوله " وإليك ما يحضرني من نصوصها في الموضوع " ، فحاول طمسها في مهدها ، ولو كانت هذه النصوص في صالحه لما طمسها ومرّ عليها هكذا مرور الكرام ، وهكذا يفعلون ، ولكن شاء الله أن يفضح أمر " آية الكذب والتدليس " ، وإليك هذه الأدعية . قال في دعاء المتوسلين : ( وأقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك ) . وقال في دعاء آخر وهو دعاء المحبين : ( ولا تصرف عني وجهك ) . وفي دعاء آخر وهو : ( وشوقته إلى لقائك وضيته بقضائك ومنحته بالنظر إلى وجهك ). وفي دعاء آخر وهو مناجاة الزاهدين : ( ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك ) . وفي دعاء آخر وهو مناجاة المفتقرين : ( واقدر أعيينا يوم لقائك برؤيتك ) . وفي دعاء آخروهو في استكشاف الهموم ( رغبتي شوقاً إلى لقائك ..) الصحيفة السجادية الكاملة ص: 317
أما ما لفقه عبد الحسين في كتابه " كلمة حول الرؤية " (ص39) ، واستشهاده ببعض أدعية السجاد على نفي الرؤية ، فإن هذا جهل بكلام العرب ، وغريب أمر هذا المؤلف إذ كيف تستعجم عليه اللغة وقد وصل إلى درجة العلاّمة . فمثلا استشهاده بقول السجاد : ( إلهي قصرت الألسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك، وعجزت العقول عن إدراك كنه جمالك ، وانحصرت الأبصار دون النظر إلى سبحات وجهك ، ولم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلا بالعجز عن معرفتك الحمد لله الأول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ...).
فأين نفيه رحمه الله رؤية الله ؟ ، بل لم يستطع المؤلف أن يورد دعاء واحد يدل على نفي الرؤية وهذا عجيب ، مما يدل أنه وأتباعه ليسوا شيعة أهل البيت ، بل شيعة الطوسي والمجلسي والمفيد وأضرابهم ! ، بل وهذا من عقائد المعتزلة وغيرهم الذين نفوا رؤية الباري تعالى يوم القيامة، وأما مذهب أهل البيت هم على مذهب أهل السنة من السلف القائلين برؤية الله تعالى يوم القيامة .
(4) هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ؟
هذه مسألة خلاف بين أهل السنة والجماعة ، فمنهم من نفى رؤيته بالعين ، ومنهم من أثبتها له ، وحكى القاضي عياض في كتابه " الشفا " اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ، وأنها قالت لمسروق حيث سألها : هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، ثم قالت : من حدّثك أن محمدُا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، فقد كذب "(أخرجه البخاري ) ثم قال : وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، وأبي هريرة .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه "(رواه البخاري) .
والتحقيق في هذه المسألة هو ما قاله القاضي عياض في كتابه " الشفا " : وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه ، فليس فيه دليل قاطع ولا نص ، والمعول فيه على " آية النجم " والتنازع فيها مأثور ، والاحتمال لها ممكن .
قال القاضي ابن أبي العز الدمشقي في شرح العقيدة الطحاوية : " وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق " .
(5) مناظرات حول رؤية الله تعالى :
قال سفيان بن عيينة في شأن بشر بن غياث المريسي، وإنكاره الرؤية : قاتل الله الدويبة، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ) (المطففين:15) فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء ، فأي فضل للأولياء على الأعداء . (سير أعلام النبلاء 8:312) .
وقال الربيع بن سليمان : حضرتُ محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله تبارك وتعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يؤمئذٍ لمحجوبون ) (المطففين:15) ؟
قال الشافعي: فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا. قال الربيع : قلت : يا أبا عبد الله وبه تقول ؟ قال : نعم ، وبه أدين الله ، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه لما عبد الله تعالى .(شرح السنة 3:506 برقم :883 : طبقات الشافعية ـ السبكي 2:81) .
وقال الشافعي أيضــًا : ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل .(تفسير ابن كثير 4:451) .
وروى اللالكائي عن زكريا بن يحيي بن حمدويه قال : سمعت رفيق نُعيم بن حماد يقول : لما صرنا إلى العراق ، وحبس نعيم بن حماد ، دخل عليه رجل في السجن من هؤلاء، فقال لنعيم : أليس الله قال : ( لا تُدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )(الأنعام:103) فقال نعيم : بلى ، ذاك في الدنيا ، قال : وما دليلك ؟ فقال نعيم : إن الله هو البقاء ، وخلق الخلق للفناء ، فلا يستطيعون أن ينظروا بأبصار الفناء إلى البقاء ، فإذا جدد لهم خلق البقاء فنظروا بأبصار البقاء إلى البقاء (شرح السنة3:508 برقم:890 ) .
مناظرة الإمام مالك للجهمية في رؤية الله تعالى : قال القاضي عياض في سيرة الإمام مالك : قال ابن نافع وأشهب ـ وأحدهما يزيد على الآخر ـ قلت : يا أبا عبد الله : ( وجوٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ )(القيامة:22 ـ 23) ينظرون إلى الله ؟ قال : نعم ، بأعينهم هاتين ، فقلت له : فإن قومــًا يقولون : لا يُنظر إلى الله ، إن ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب ، قال : كذبوا ، بل ينظر إلى الله ، أما سمعت قول موسى عليه السلام : ( رب أرني أنظر إليك )(الأعراف:143)؟ أفترى موسى سأل ربه محالاً ؟ فقال الله : ( لن تراني ) في الدنيا ؛ لأنها دار فناء ، ولا ينظر إلى ما بقي بما يفنى، فإذا صاروا إلى دار البقاء ، نظروا بما بقي إلى ما بقي ، وقال : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون )(المطففين:15) .
مناظرة الإمام أحمد للجهمية في الرؤيا : قال أحمد رحمه الله : فقلنا لهم : لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟!! فقالوا : لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه؛ لأن المنظور إليه معلوم موصوف لا يُرى ، إلا شيء يفعله، فقلنا لهم : أليس الله يقول : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ ) ؟ فقالو : إن معنى : ( إلى ربها ناظرة ) أنها تنتظر الثواب من ربها ، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته ، وتلوا آية من القرآن : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل )(الفرقان:45) . فقالوا : إنه حين قال : (ألم تر إلى ربك ) أنهم لم يروا ربهم ؛ ولكن المعنى ألم تر إلى فعل ربك ، فقلنا : إن فعل الله لم يزل العباد يرونه ، وإنما قال : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ ) قالوا : إنما " تنتظر " الثواب من ربها .
فقلنا : إنها مع ما تنتظر من الثواب هي ترى ربها ، فقالوا : إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، وتلوا آية من المتشابه من قول الله جل ثناؤه : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )(الأنعام:103) ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معنى قول الله : ( لا تدركه الأبصار ) وقال : [ إنكم سترون ربكم ] ، وقال لموسى : ( لن تراني ) ولم يقل : لن أُرى، فأيهما أولى أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : [ إنكم سترون ربكم ] أو قول الجهمي حين قال : " لا ترون ربكم "، والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم لا يختلف فيها أهل العلم .. وإنا لنرجوا أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله ؛ لأن الله قال للكفار: (كلا إنهم عن ربهم يومئذًٍ لمحجوبون ) فإذا كان الكافر يحجب عن الله ، والمؤمن يحجب عن الله ، فما فضل المؤمن على الكافر ؟! (الرد على الجهمية والزنادقة ـ أحمد بن حنبل صـ127ـ129) .
(6) من أقوال أئمة السنة في إثبات الرؤية :
قال ابن قدامة المقدسي في " لمعـة الاعتقاد " : " والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه ، ويكلمهم ويكلمونه ، قال الله تعالى : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ ) وقال تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون )(المطففين:15) ، فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى ، وإلا لم يكن بينهما فرق ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ](متفق عليه) ، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية ، لا للمرئي بالمرئي ، فإن الله تعالى لا شبيه له ، ولا نظير " (ابن قدامة المقدسي : لمعــة الاعتقاد)
قال الإمام الطحاوي : ** " والرؤية حق لأهل الجنة ، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا : ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ * إلى ربها ناظرةٌ ) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه ، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد ، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه .
** ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام ، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ، ولم يقنع بالتسليم فهمه ، حجبه مرامه عن خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان ، فيتذبذب بين الكفر والإيمان ، والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوســًا تائهــًا شاكــًا لا مؤمنــًا مصدقــًا ، ولا جاحدًا مكذبــًا .
** ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم ، إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بتر ك